فصل: ذكر إجلاء بني معروف عن البطائح وقتلهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة

  ذكر وفاة كيكاوس وملك كيقباذ أخيه

في هذه السنة توفي الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان صاحب قونية وأقصرا وملطية وما بينهما من بلد الروم وكان قد جمع عساكره وحشد وسار إلى ملطية على قصد بلاد الملك الأشرف لقاعدة استقرت بينه وبين ناصر الدين صاحب آمد ومظفر الدين صاحب إربل وكانوا قد خطبوا له وضربوا اسمه على السكة في بلادهم واتفقوا على الملك الأشرف وبدر الدين بالموصل‏.‏

فسار كيكاوس إلى ملطية ليمنع الملك الأشرف بها عن المسير إلى الموصل نجدة لصاحبها بدر الدين لعل مظفر الدين يبلغ من الموصل غرضًا وكان قد علق به السل فلما اشتد مرضه عاد عنها فتوفي وملك بعده أخوه كيقباذ وكان محبوسًا قد حبسه أخوه كيكاوس لما أخذ البلاد منه وأشار عليه بعض أصحابه بقتله فلم يفعل فلما توفي لم يخلف ولدًا يصلح للملك لصغرهم

وقيل بل أرسل كيكاوس لما اشتد مرضه فأحضره عنده من السجن ووصى له بالملك وحلف الناس له فلما ملك خالفه عمه صاحب أرزن الروم وخاف أيضًا من الروم المجاورين لبلاده فأرسل إلى الملك الأشرف وصالحه وتعاهدا على المصافاة والتعاضد وتصاهرا وكفي الأشرف شر تلك الجهة وتفرغ باله لإصلاح ما بين يديه ولقد صدق القائل‏:‏ ‏(‏لا جد إلا ما أقعص عنك الرجال‏)‏‏.‏ وكأنه بقوله أراد‏:‏ ‏(‏وجدك طعان بغير سنان‏)‏‏.‏

وهذا ثمرة حسن النية فإنه حسن النية لرعيته وأصحابه كاف عن أذى يتطرق إليهم منه غير قاصد إلى البلاد المجاورة لبلاده بأذى وملك مع ضعف أصحابها وقوته لا جرم تأتيه البلاد صفوًا عفوًا‏.‏

  ذكر موت صاحب سنجار وملك ابنه ثم قتل ابنه وملك أخيه

و في هذه السنة ثامن صفر توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي صاحب سنجار وكان كريمًا حسن السيرة في رعيته حسن المعاملة مع التجار كثير الإحسان إليهم وأما أصحابه فكانوا معه في أرغد عيش يعمهم بإحسانه ولا يخافون أذاه وكان عاجزًا عن ولما توفي ملك بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه وركب الناس معه وبقي مالكًا لسنجار عدة شهور وسار إلى تل أعفر وهي له فدخل عليه أخوه عمر بن محمد بن زنكي ومعه جماعة فقتلوه وملك أخوه عمر بعده فبقي كذلك إلى أن سلم سنجار إلى الملك الأشرف على ما نذكره إن شاء الله تعالى ولم يمتع بملكه الذي قطع رحمه وأراق الدم الحرام لأجله‏.‏

ولما سلم سنجار أخذ عوضها الرقة ثم أخذت منه عن قريب وتوفي بعد أخذها منه بقليل وعدم روحه وشبابه‏.‏

وهذه عاقبة قطيعة الرحم فإن صلتها تزيد في العمر وقطيعتها تهدم العمر‏.‏

  ذكر إجلاء بني معروف عن البطائح وقتلهم

في هذه السنة في ذي القعدة أمر الخليفة الناصر لدين الله الشريف معدًا متولي بلاد واسط أن يسير إلى قتال بني معروف فتجهز وجمع معه من الرجالة من تكريت وهيت والحديثة والأنبار والحلة والكوفة وواسط والبصرة وغيرها خلقًا كثيرًا وسار إليهم ومقدمهم حينئذ معلى بن معروف وهم قوم من ربيعة‏.‏

وكانت بيوتهم غبي الفرات تحت سوراء وما يتصل بذلك من البطائح وكثر فسادهم وأذاهم لما يقاربهم من القرى وقطعوا الطريق وأفسدوا في النواحي المقاربة لبطيحة العراق فشكا أهل تلك البلاد إلى الديوان منهم فأمر معدًا أن يسير إليهم في الجموع فسار إليهم فاستعد بنو معروف لقتاله فاقتتلوا بموضع يعرف بالمقبر وهو تل كبير بالبطيحة بقرب العراق وكثر القتل بينهم ثم انهزم بنو معروف وكثر القتل فيهم والأسر والغرق وأخذت أموالهم حملت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من السنة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في المحرم انهزم عماد الدين زنكي من عسكر بدر الدين‏.‏

وفيها في العشرين من رجب انهزم بدر الدين من مظفر الدين صاحب إربل وعاد مظفر الدين إلى بلده وقد تقدم ذلك مستوفى في سنة خمس عشرة وستمائة‏.‏

وفيها ثامن صفر توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي صاحب سنجار وملك بعده ابنه شاهنشاه‏.‏

وفيها في التاسع والعشرين من شعبان ملك الفرنج مدينة دمياط وقد ذكر سنة أربع عشرة مشروحًا‏.‏

وفيها توفي افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي العباسي الفقيه الحنفي رئيس الحنيفية بحلب روى الحديث عن عمر البسطامي نزيل بلخ وعن أبي سعد السمعاني وغيرهما‏.‏

وفيها توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري الضرير النحوي وغيره وفيها توفي أبو الحسن علي بن أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن عبد الله الدمشقي الحافظ ابن الحافظ المعروف بابن عساكر وكان قد قصد خراسان وسمع بها الحديث فأكثر وعاد إلى بغداد فوقع على القفل حرامية فجرح وبقي ببغداد وتوفي في جمادى الأولى رحمه الله‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة

  ذكر خروج التتر إلى بلاد الشام

لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عله أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًا إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا فنقول‏:‏ عمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل‏:‏ إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها‏.‏

ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل ن القتل وتخريب البيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج‏.‏

وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال شقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

لهذه الحادثة التي استطار شررها وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح فإن قومًا خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلا تركستان مثل كاشغر وبلاساغون ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكًا وتخريبًا وقتلًا ونهبًا ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق ثم يقصدون بلاد أذريبجان وأرانية ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة هذا ما لم يسمع مثله‏.‏

ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم وعبروا عندها إلى بلد اللان واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة فأوسعوهم قتلًا ونهبًا وتخريبًا ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عددًا فقتلوا كل من وقف لهم فهرب الباقون إلى الغياض ورؤس الجبال وفارقوا بلادهم واستولى هؤلاء التتر عليها فعلوا هذا في أسرع زمان ولم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير‏.‏

ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ففعلوا فيه مثل فعل هؤلاء وأشد‏.‏

هذا ما لم يطرق الأسماع مثله فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة إنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحدًا إنما رضي من الناس بالطاعة وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلًا وأعدل أهل الأرض أخلاقًا وسيرة في نحو سنة ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعها ويترقب وصولهم إليه‏.‏

ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير فهم إذا نزلوا منزلًا لا يحتاجون إلى شيء من خارج‏.‏

وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئًا فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال فإذا جاء الولد لا يعرف أباه‏.‏

ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها هؤلاء التتر قبحهم الله أقبلوا من المشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها وستراها مشروحة متصلة إن شاء الله تعالى‏.‏

ومنها خروج الفرنج لعنهم الله من المغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر وملكهم ثغر دمياط منها وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره ومنها الذي سلم من هاتين الطائفتين فالسيف بينهم مسلول والفتنة قائمة على ساق وقد ذكرناه أيضًا فإنا لله وإنا إليه راجعون نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصرًا من عنده فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم ‏{‏وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فإن هؤلاء التتر إنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع‏.‏

وسبب عدمه أن خوارزم شاه محمدًا كان قد استولى على البلاد وقتل ملوكها وأفناهم وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها فلما انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم ولا من يحميها ‏{‏ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وهذا حين نذكر ابتداء خروجهم إلى البلاد‏.‏

  ذكر خروج التتر إلى تركستان وما وراء النهر وما فعلوه

في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام وهم نوع كثير من الترك ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين وبينها وبين بلاد الإسلام ما يزيد على ستة أشهر‏.‏

وكان السب في ظهورهم أن ملكهم ويسمى بجنكزخان المعروف بتموجين كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان وسير جماعة من التجار والأتراك ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى ليشتروا له ثيابًا للكسوة فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا وهي آخر ولاية خوارزم شاه وكان له نائب هناك فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليهم فقتلهم وسيّر ما معهم وكان شيئًا كثيرًا فلما وصل إلى خوارزم شاه فرقه على تجار بخارى وسمرقند وأخذ ثمنه منهم‏.‏

وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سد الطرق عن بلاد تركستان وما بعدها من البلاد وإن طائفة من التتر أيضًا كانوا قد خرجوا قديمًا والبلاد للخطا فلما ملك خوارزم شاه البلاد بما وراء النهر من الخطا وقتلهم واستولى هؤلاء التتر على تركستان‏:‏ كاشغار وبلاساغون وغيرهما وصاروا يحاربون عساكر خوارزم شاه فلذلك منع الميرة عنهم من الكسوات وغيرها‏.‏

وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر‏:‏ فكان ما كان ما لست أذكره فظن خيرًا ولا ولا تسأل عن الخبر فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكزخان أرسل جواسيس إلى جنكزخان لينظر ما هو وكم مقدار ما معه من الترك وما يريد أن يعمل فمضى الجواسيس وسلكوا المفازة والجبال التي على طريقهم حتى وصوا إليه فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم وأنهم يخرجون عن الإحصاء وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم فندم خوارزم شاه على قتل أصحابهم وأخذ أموالهم وحصل عنده فكر زائد فأحضر الشهاب الخيوفي وهو فقيه فاضل كبير المحل عنده لا يخالف ما يشير به فحضر عنده فقال له‏:‏ قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى‏.‏

فقال له‏:‏ في عساكرك كثرة ونكاتب الأطراف ونجمع العساكر ويكون النفير عامًا فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام فنكون هناك فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيدة لقيناه ونحن مستريحون وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب‏.‏

فجمع خوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة فاستشارهم فلم يوافقوه على رأيه بل قالوا‏:‏ الرأي أن نتركهم يعبرون سيحون إلينا ويسلكون هذه الجبال والمضايق فإنهم جاهلون بطرقهم ونحن عارفون بها فنقوى حينئذ عليهم ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد‏.‏

فبينما هم كذلك إذ ورد رسول من هذا اللعين جنكزخان معه جماعة يتهد خوارزم شاه ويقول‏:‏ تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم‏!‏ استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به‏.‏

وكان جنكزخان قد سار إلى تركستان فملك كاشغار وبلاساغون وجميع تلك البلاد وأزال عنها التتر الأولى فلم يظهر لهم خبر ولا بقي لهم أثر بل بادوا كما أصاب الخطا وأرسل الرسالة المذكورة إلى خوارزم شاه فلما سمعها خوارزم شاه أمر بقتل رسوله فقتل وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه وأعادهم إلى صاحبهم جنكزخان يخبرونه بما فعل بالرسول ويقولون له‏:‏ إن خوارزم شاه يقول لك‏:‏ أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك‏.‏

وتجهز خوارزم شاه وسار بعد الرسول مبادرًا ليسبق خبره ويكسبهم فأدمن السير فمضى وقطع مسيرة أربعة أشهر فوصل إلى بيوتهم فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأثقال فأوقع بهم وغنم الجميع وسبى النساء والذرية‏.‏

وكان سبب غيبة الكفار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان فقاتلوه وهزموه وغنموا أمواله وعادوا فلقيهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخلفيهم فجدوا السير فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم وتصافوا للحرب واقتتلوا قتالًا لم يسمع بمثله فبقوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها فقتل من الطائفتين ما لا يعد ولم ينهزم أحد منهم‏.‏

أما المسلمون فإنهم صبروا حمية للدين وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للمسلمين باقية وأنهم يؤخذون لبعدهم عن بلادهم‏.‏

وأما الكفار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم واشتد بهم الأمر حتى إن أحدهم كان ينزل عن فرسه ويقاتل قرنه رجلًا ويتضاربون بالسكاكين وجرى الدم على الأرض حتى صارت الخيل تزلق من كثرته واستنفذ الطائفتان وسعهم في الصبر والقتال‏.‏

هذا القتال جميعه مع ابن جنكزخان ولم يحضر أبوه الوقعة ولم يشعر بها فأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفًا وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم‏.‏

فلما كان الليلة الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض فلما أظلم الليل أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا وكذلك فعل المسلمون أيضًا كل منهم سئم القتال فأما الكفار فعادوا إلى ملكهم جنكزخان وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى فاستعد للحصار لعلمه بعجزه لأن طائفة عسكره لم يقدر خوارزم شاه على أن يظفر بهم فكيف إذا جاؤوا جميعهم مع ملكهم فأمر أهل بخار وسمرقند بالاستعداد للحصار وجمع الذخائر للامتناع وجعل في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونها وفي سمرقند خمسين ألفًا وقال لهم‏:‏ احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر واستنجد بالمسلمين وأعود إليكم‏.‏

فلما فرغ من ذلك رحل عائدًا إلى خراسان فعبر جيحون ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك‏.‏

وأما الكفار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون ما وراء النهر فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من وصول خوارزم شاه وحصروها وقاتلوهما ثلاثة أيام قتالًا شديدًا متتابعًا فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة ففارقوا البلد عائدين إلى خراسان فلما أصبح أهل البلد وليس عندهم من العسكر أحد ضعفت نفوسهم فأرسلوا القاضي وهو بدر الدين قاضي خان ليطلب الأمان للناس فأعطوهم الأمان‏.‏

وكان قد بقي من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم فاعتصموا بالقلعة فلما أجابهم جنكزخان إلى الأمان فتحت أبواب المدينة يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة وستمائة فدخل الكفار بخارى ومل يتعرضوا لأحد بل قالوا لهم‏:‏ كل ما هو للسلطان عندكم من ذخيرة وغيره أخرجوه إلينا وساعدونا على قتال من بالقلعة وأظهروا عندهم العدل وحسن السيرة ودخل جنكزخان بنفسه وأحاط بالقلعة ونادى في البلد بأن لا يتخلف أحد ون تخلف قتل فحضروا جميعهم فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك حتى إن الكفار كانوا يأخذون المنابر وربعات القرآن فيلقونهم في الخندق فإنا لله وإنا إليه راجعون وبحق سمى الله نفسه صبورًا حليمًا وإلا كان خسف بهم الأرض عند فعل مثل هذا‏.‏

ثم تابعوا الزحف إلى القلعة وبها نحو أربع مائة فارس من المسلمين فبذلوا جهدهم ومنعوا القلعة اثني عشر يومًا يقاتلون جميع الكفار وأهل البلد فقتل بعضهم ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم ووصل النقابون إلى سور القلعة فنقبوه واشتد حينئذ القتال ومن بها من المسلمين يرمون ما يجدون من حجارة ونار وسهام فغضب اللعين ورد أصحابه ذلك اليوم وباكرهم من الغد فجدوا في القتال وقد تعب من بالقلعة ونصبوا وجاءهم ما لا قبل لهم به فقهرهم الكفار ودخلوا القلعة وقاتلهم المسلمون الذين فيها حتى قتلوا عن آخرهم فلما فرغ من القلعة نادى أن يكتب له وجوه الناس ورؤساؤهم ففعلوا ذلك فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضروا فقال‏:‏ أريد منكم النقرة التي باعكم خوارزم شاه فإنها لي ومن أصحابي أخذت وهي عندكم‏.‏

فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يديه ثم أمرهم بالخرج من البلد فخرجوا من البلد مجردين من أموالهم ليس مع أحد منه غير ثيابه التي عليه ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه وأحاط بالمسلمين فأمر أصحابه أن يقتسموهم فاقتسموهم‏.‏

وكان يومًا عظيمًا من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان وتفرقوا أيدي سبا وتمزقوا كل ممزق واقتسموا النساء أيضًا وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس وارتكبوا من النساء العظيم والناس ينظرون ويبكون ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئًا مما نزل بهم فمنهم من لم يرض بذلك واختار الموت على ذلكن فقاتل حتى قتل وممن فعل ذلك واختار أن يقتل ولا يرى ما نزل بالمسلمين الفقيه الإمام ركن الدين إمام زاده وولده فإنهما لما رأيا ما يفعل بالحرم قاتلا حتى قتلا‏.‏

وكذلك فعل القاضي صدر الدين خان ومن استسلم أخذ أسيرًا وألقوا النار في البلد والمدارس والمساجد وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ثم رحلوا نحو سمرقند وقد تحققوا عجز خوارزم شاه عنهم وهم بمكانه بين ترمذ وبلخ واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى فساروا بهم مشاة على أقبح صورة فكل من أعيا وعجز عن المشي قتلوه فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم حتى تقدموا شيئًا فشيئًا ليكون أرعب لقلوب المسلمين فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه‏.‏

فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلد والقوة رجالة ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتر يتأخرون وأهل البلد يتبعونهم ويطمعون فيهم وكان الكفار قد كمنوا لهم كمينًا فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولًا فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل جانب فلم يسلم منهم أحد قتلوا عن آخرهم شهداء رضي الله عنهم وكانوا سبعين ألفًا على ما قيل‏.‏

فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك فقال الجند وكانوا أتراكًا‏:‏ نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا فطلبوا الأمان فأجابوهم إلى ذلك ففتحوا أبواب البلد ولم يقدر العامة على منعهم وخرجوا إلى الكفار بأهلهم وأموالهم فقال لهم الكفار‏:‏ ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم ففعلوا ذلك فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخرهم وأخذوا أموالهم ودوابهم ونساءهم‏.‏

فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلهم مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه وأحرقوا الجامع وتركوا باقي البلد على حاله وافتضوا الأبكار وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال وقتلوا من لم يصلح للسبي وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة‏.‏

وكان خوارزم شاه بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند فيرجعون ولا يقدرون على الوصول إليها نعوذ بالله من الخذلان سير مرة عشرة آلاف فارس فعادوا كالمنهزمين من غير قتال وسير عشرين ألفًا فعادوا أيضًا‏.‏

  ذكر مسير التتر الكفار إلى خوارزم شاه وانهزامه وموته

لما ملك الكفار سمرقند عمد جنكزخان لعنه الله وسير عشرين ألف فارس وقال لهم‏:‏ اطلبوا خوارزم شاه أين كان ولو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه‏.‏

وهذه الطائفة تسميها التتر المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان ليقع الفرق بينهم وبين غيرهم منهم لأنهم هم الذين أوغلوا في البلاد فلما أمرهم جنكزخان بالمسير ساروا وقصدوا موضعًا يسمى بنج آب ومعناه خمسة مياه فوصلوا إليه فلم يجدوا هناك سفينة فعلموا من الخشب مثل الأحواض الكبار وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم

وألقوا الخيل في الماء وأمسكوا أذنابها وتلك الحياض التي من الخشب مشدودة إليهم فكان الفرس يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره فعبروا كلهم دفعة واحدة فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة‏.‏

وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعبًا وخوفًا وقد اختلفوا فيما بينهم إلا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن نهر جيحون بينهم فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات ولا على المسير مجتمعين بل تفرقوا أيدي سبا وطلب كل طائفة منهم جهة ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته وقصدوا نيسابور فلا دخلها اجتمع عليه بعض العسكر فلم يستقر حتى وصل أولئك التتر إليها‏.‏

وكانوا لا يتعرضون في مسيرهم لشيء لا بنهب ولا قتل بل يجدون السير في طلبه لا يمهلونه حتى يجمع لهم فلما سمع بقربهم منه رحل إلى مازندران وهي له أيضًا فرحل التتر المغربون في أثره ولم يعرجوا على نيسابور بل تبعوه فكان كلما رحل عن منزلة نزلوها فوصل إلى مرسى من بحر طبرستان يعرف بباب سكون وله هناك قلعة في البحر فلما نزل هو وأصحابه في السفن وصلت التتر فلما رأوا خوارزم شاه وقد دخل البحر وقفوا على ساحل البحر فلما أيسوا من لحاق خوارزم شاه رجعوا فهم الذين قصدوا الري وما بعدها على ما نذكره إن شاء الله‏.‏ هكذا ذكر لي بعض الفقها ممن كان ببخارى وأسروه معهم إلى سمرقند ثم نجا منهم ووصل إلينا وذكر غيره من التجار أن خوارزم شاه سار من مازندان حتى وصل إلى الري ثم منها إلى همذان والتتر في أثره ففارق همذان في نفر يسير جريدة ليستر نفسه ويكتم خبر وعاد إلى مازندران وركب في البحر إلى هذه القلعة‏.‏

وكان هذا هو الصحيح فإن الفقيه كان حينئذ مأسورًا وهؤلاء التجار أخبروا أنهم كانوا بهمذان ووصل خوارزم شاه ثم وصل بعده من أخبره بوصول التتر ففارق همذان وكذلك أيضًا هؤلاء التجار فارقوها ووصل التتر إليها بعدهم ببعض نهار فهم يخبرون عن مشاهدة ولما وصل خوارزم شاه إلى هذه القلعة المذكورة توفي فيها‏.‏

  ذكر صفة خوارزم شاه وشيء من سيرته

هو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش وكان مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهورًا تقريبًا واتسع ملكه وعظم محله وأطاعه العالم بأسره ولم يملك بعد السلجوقية أحد مثل ملكه فإنه ملك من حد العراق إلى تركستان وملك بلاد غزنة وبعض الهند وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس وفعل بالخطا الأفاعيل العظيمة وكان فاضلًا عالمًا بالفقه والأصول وغيرهما وكان مكرمًا للعلماء محبًا لهم محسنًا إليهم يكثر مجالستهم ومناظراتهم بين يديه وكان صبورًا على التعب وإدمان السير وغير متنعم ولا مقبل على اللذات إنما همه في الملك وتدبيره وحفظه ورعاياه وكان معظمًا لأهل الدين مقبلًا عليهم متبركًا بهم‏.‏

حكى لي بعض خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد عاد من خراسان قال‏:‏ وصلت إلى خوارزم فنزلت ودخلت الحمام ثم قصدت باب السلطان علاء الدين فحين حضرت لقيني إنسان فقال‏:‏ ما حاجتك فقلت له‏:‏ أنا من خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني بالجلوس وانصرف عني قليلًا ثم عاد إلي وأخذني وأدخلني إلى دار السلطان فتسلمني منه حاجب من حجاب السلطان وقال لي‏:‏ قد أعلمت السلطان خبرك فأمر بإحضارك عنده فدخلت إليه وهو جالس في صدر إيوان كبير فحين توسطت صحن الدار قام قائمًا ومشى إلى بين يدي فأسرعت السير فلقيته في وسط الإيوان فأردت أن أقبل يده فمنعني واعتقني وجلس وأجلسني إلى جانبه وقال لي‏:‏ أنت تخدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ نعم فأخذ يدي وأمرها على وجهه وسألني عن حالنا وعيشنا وصفة المدينة ومقدارها وأطال الحديث معين فلما خرجت من عنده قال‏:‏ لولا أننا على عزم السفر هذه الساعة لما ودعتك إنا نريد أن نعبر جيحون إلى الخطا وهذا طريق مبارك حيث رأينا من يخدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وثم ودعني وأرسل إلي جملة كثيرة من النفقة ومضى وكان منه ومن الخطا ما ذكرناهن وبالجملة فاجتمع فيه ما تفرق في غيره من ملوك العالم رحمه الله ولو أردناذكر مناقبه لطال ذلك‏.‏